منتهى الإسراء ومبتدأ المعراج:
في صحبة عمه أبي طالب كانت الرحلة الأولى لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بلاد الشام، حيث صَحِبَه في رحلة تجارية ومحمد شاب صغير لم يُوحَ إليه بعد..
لكنّ العام العاشر من البعثة النبوية ـ أي: والرسول في الخمسين من عمره ـ أتى ومعه رحلةٌ شَمِلَ التكريمُ فيها الإنسانَ والمكانَ: الإنسان في شخص النبي الخاتم، والمكان في شخص المسجد الحرام والمسجد الأقصى.
بدأت رحلة الإسراء في ليلة مكّية غَفَتْ فيها العيون، وملأ النومُ ما بين أجفانها ـ من المسجد الحرام، وتخطّتْ ذوي السلطان من الخَلق، فما منعتها قوةُ رُومٍ ولا بأس فُرس، والبُراق الذي يركبه النبي يضع رِجْلَه عند آخر نقطة يراها بصرُه الحادّ، ويطوي المسافات طيًّا، لتنتهي خطواتُه عند المسجد الأقصى.
وصافحت عينا النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسجدَ محيّيةً، ونزل عن البراق، وربطه في الحلقة التي يربط فيها الأنبياء دوابَّهم عند زيارتهم المسجد الأقصى العتيق، وخطا النبيُّ خطواتٍ غفل البشر النيام عنها، ودخل المسجد الأقصى وصلى لصاحب المُلك والأمر ركعتيْن.
وبعد هذه الصحبة القصيرة العميقةِ عُمقَ الخشوعِ النبوي في الصلاة، غادر الرسول المسجد والمدينة وقد ثبتت في ذاكرته الكثير من معالمِها وصفاتِها.. وأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِقَدَحَيْن: مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا فَأَخَذَ اللَّبَنَ، قَالَ جِبْرِيلُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ .."(رواه البخاري). وكانت هذه نهاية الرحلة الأولى: رحلة الإسراء.
وكانت رحلةً مختارة من اللطيف الخبير ـ سبحانه ـ ربطت بين رسالات السماء من لدن إبراهيم وإسماعيل إلى خاتم النبيين، وربطت الأماكن المقدسة لشرائع التوحيد جميعًا، وكأنما هي رحلة لإعلان وراثة الرسول الأخير للأنبياء قبله، واحتضان رسالته هذه المقدسات كلَّها.
وفي مشهد كوني بديع، حضرته الملائكة، وسيرت أمره القدرة الإلهية، بدأت رحلة جديدة أكثر جلالا وأبعد مدى، وكان المبتدأ من الحرم القدسي الشريف، حيث عُرج برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واخترق نحو مواضع الجلال في السموات العلا.
وفي اليوم التالي، وفي الحِجر عند الكعبة، كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخبر قريشا بما شاهد ورأى في إسرائه، والقوم كأنهم وجدوا ضالتهم في تأكيد كذب هذا الرجل، وهو الذي صيغ قلبه ونفسه من الصدق مع الله والنفس والخَلْق، فاجتمعوا حوله يطالبونه بوصف بيت المقدس التي يعرفها الكثير من تجّارهم، فروى لهم ما رأى بدقة وإحكام، والقوم مندهشون يفتحون عيونهم وأفواههم، وتضاعف عون الله لعبده، مما حكاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله: "لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ" (رواه البخاري).